2021-05-31
شهادة حية بقلم : جمال طلب العملة مدير عام مركز أبحاث الأراضي/ جمعية الدراسات العربية 30 أيار- 2021م |
يقول الإمام الشافعي :-
"ﻭأﻛﺮﻡ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻣﺎﺑﻴﻦ ﺍﻟﻮﺭى ﺭﺟﻞ .... ﺗﻘضى ﻋلى ﻳﺪﻩ ﻟﻠﻨﺎﺱ حاجات"
اتصل الأخ فيصل الحسيني بنفسه يخبرني بأنه سيرسل لي فوراً -على مكتب مركز أبحاث الأراضي الكائن في عمارة النزهة آنذاك- وفداً من الشيخ جراح، طالباً دراسة قضيتهم بأقصى سرعة وإيفائه بتصور كامل عن القضية وكيفية معالجتها! كان ذلك في خضم انشغال القائد المرحوم في القضية الفلسطينية بعد مؤتمر مدريد وإعلان المبادئ في أوسلو عام 1993م.
حملوا معهم ملفاً ثقيلاً ضخماً بعض أوراقه تكاد تتمزق من كثرة التصفح، لكن عيونهم وملامحهم وشت بأنهم يحملون على أكتافهم همًّاً فاق ثقله وزن الجبال ( أذكر منهم السيد ماهر عويضة، والسيد عماد حجيج وآخرين ) شرحوا لي بعجالة القضية منذ احتلال 1948م ، لكنهم ركزوا أكثر على أوامر الإخلاء التي تلقوها عام 1972م بإيعاز من محامي عوائل يهودية ومن يمثلهم والذين يدعون ملكية الأرض التي تقوم عليها وحدات سكن الشيخ جراح الثمانية والعشرين بادعاء أن أصحاب هذه الوحدات السكنية والتي حازوا عليها باتفاق رسمي بين الحكومة الأردنية ووكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين منذ عام 1955م معتدون على أرض ليست لهم.
قامت العوائل مجتمعة بإعطاء توكيل لمحامي إسرائيلي اسمه اسحق توسيا كوهين، وبقيت القضية تدور في المحاكم الإسرائيلية ودوائرها حتى صدر قرار عام 1982م يقضي بقبول محامي أصحاب المساكن باعتبار موكليه مستأجرين محميين في مساكن ليست لهم على أرض يمتلكها غيرهم ...!!! متجاهلين الاتفاق الدولي ومقايضة الحقوق المكتسبة من وكالة الغوث بتملك هذه المساكن دون منازعة.
وافق البعض القليل من أصحاب وحدات السكن على دفع الأجرة ورفض ذلك الغالبية.. إلى أن مرت فترة زمنية جعلت محامي الخصم يبدأ بالمطالبة بتنفيذ الطرد الفعلي لأصحاب المساكن من بيوتهم ... هنا فهمت ما قالوه بأن القضية أصبحت مغلقة قانونياً حيث تم إحكام إغلاقها عليهم بسبب تآمر محاميهم الإسرائيلي كوهين وأنه لم يتبقى سوى الحلول السياسية ... هرعوا الى بيت الشرق قابلوا الأخ فيصل الحسيني لنجدتهم!!! ومن هنا بدأت المرحلة الثانية من هذه الحكاية المعقدة التي نزف أصحابها ذؤابة قلوبهم صبراً وجلداً ومواجهات وغرامات واعتقالات حتى غدا كل فرد من أصحاب هذه المساكن أيقونة مقدسية تستحق التوثيق في سجل النضال الفلسطيني الطويل.
تيقنت من ثقل المسؤولية وفهمت لماذا الاهتمام الكبير من القائد فيصل الحسيني رغم انشغاله الشديد، حملت الملف وهرعت به لمحامي جمعية الدراسات العربية آنذاك السيد إبراهيم نصار التمس عنده ثغرة قانونية لتعطيل عملية الإخلاء.. كان صريحاً وصادقاً: قال هذه قضية ميته قانونياً، لكني لست متخصصاً في مثل هذه القضايا أنصحكم بالتوجه للمحامي (صالح) حسني أبو حسين (اسمه صالح وكنيته حسني) من أم الفحم فقد يفيدكم في ذلك، من مكتبه اتصلت بالمحامي أبو حسين واتفقنا على لقاء في اليوم التالي في بيت الشرق.
في مكتب الأخ فيصل في بيت الشرق تم اللقاء مع المحامي وبحضور لجنة حي الشيخ جراح، بعد النقاش قال المحامي حسني بفكاهة تقطر مرارة بأنكم كمن تطلبون مني إحياء ميت قد شبع موتاً، فهل تظنون أنني عيسى المسيح!!!
عندها تدخل الأخ فيصل بحكمة القائد الحقيقي قائلاً:- (( أخي حسني .. نريد منك أن تسعى بشتى السبل لتأجيل عملية الترحيل لمدة خمس سنوات فقط.. بعدها ستتم معالجتها سياسياً ضمن مفاوضات المرحلة النهائية فملف القدس من ضمنها، إفعل المستحيل واعتبرني أنا والمؤسسة بكامل فرقها سنكون بجانبك مهما تطلب الأمر، المهم يجب ألا تنجح محاولات إخلاء المساكن وإدخال المستوطنين مكان أصحابها حتى لا يصبح وجودهم أمراً واقعاً يعقد علينا المسألة لاحقاً)).
طلب المحامي حسني أخذ نسخة عن الملف ومهلة أسبوع لإعادة قراءته كلمة كلمة قبل أن يرسم خطة التدخل القانوني للقضية ولتعطيل قرارات الإخلاء.
في اليوم الثاني زار مكتبنا في عمارة النزهة السيد سليمان درويش حجازي - أحد رجالات القدس المناضلين المرابطين بصلابة اسطورية - والذي كنا نتابع معه قضية أرض السمار في وادي الجوز وقضية كبانية أم هارون في منطقة الشيخ جراح ...
بعد استكمال ما جاء لأجله سألني بحدس عيون الصقر: - أراك مهموماً!!! أخبرته بقضية وحدات سكن الشيخ جراح والوضع اليائس لأصحاب المساكن ...
إبتسم أبو درويش وطلب فنجان قهوة إضافي وقال: - الحل يكمن عندي!!!
بعد يومين وفي مكتب الأخ فيصل الحسيني وبحضوره جلس المحامي حسني أبو حسين وأمامه الملف المنتفخ لما فوق الاحتمال، جلسنا جميعاً نستمع للسيد أبو درويش حجازي فقال:- ((هذه الأرض المسماة أرض وحدات سكن الشيخ جراح هي ملك عائلتي عائلة حجازي السعدي وليست ملكاً لليهود كما تم تسجيله في مكتب حارس أملاك العدو!!! والمقام الذي يقع فوق أرض وحدات السكن والذي يسمونه مقام الصِدِّيق شمعون هو مقام إسلامي لرجل صالح اسمه الصِدِّيق السعدي الذي ننتمي اليه.. والادعاءات الإسرائيلية كلها كاذبة ووثائقهم مزورة لكنهم يتقنون التحايل ويعتمدون على جهلنا وقلة متابعتنا ولديهم نفس طويل لتثبيت أكاذيبهم بينما نحن انفاسنا قصيرة لا تصمد طويلاً))
أضاءت المكان ابتسامة الأخ فيصل بوجهه البشوش المتفائل ولمعت عيناه عن فكرة ذكية.. التقطها المحامي حسني بعمق حدسه وسرعة بديهته قائلاً :- اطمئن أبو العبد إذا كان كلام أبو درويش دقيقاً سأجرجرهم بالمحاكم لضعف عدد السنوات التي طلبتها مني.
شرح الأخ فيصل فكرته موجهاً حديثه للسيد أبو درويش قائلاً: - يجب أن تشتكي قانونياً على أصحاب وحدات سكن الشيخ جراح جميعاً مطالباً إياهم بدفع أجرة استخدام أرضكم.
بُهِتَ أبا درويش من وقع الفكرة وقال مستنكراً :- (( الله يسامحك أبو العبد .. بدك تفضحنا في القدس؟؟؟ لم نعترض عندما تمت اتفاقية الحكومة الأردنية ووكالة الغوث، بدك أشتكي على أهلي وجيراني للعدو !!!))
ضحك أبو العبد قائلاً :- لا تخف ستكون الدعوة القضائية شكلية ونحن سنشرحها لأهالي الحي، أنت ستكون بمثابة مسيح هذه القضية وسيسجل التاريخ المقدسي اسمك بماء من ذهب.
أضاف المحامي حسني :- مباشرة بعد تقديم دعوى عائلة حجازي ضد أصحاب المساكن سأرفع مطالبة للمحكمة بإيقاف كافة الإجراءات الى حين البت في القضية الجديدة.
ومنذ ذاك العام والصراع القانوني على أشده والخمس سنوات التي طلبها أبو العبد أصبحت 27 سنة وما زال أهالي الحي صامدون في مساكنهم وما زال المحامي حسني يقود الفريق القانوني في المتابعة الحثيثة والتي عدالتها واضحة لو كانت أمام محكمة عادلة أو محايدة لكن عندما تصبح المحاكم أحد أدوات الاحتلال فلا بد من الرهان على الزمن والتعطيل للتنفيذ.
عبر هذه السنوات السبع والعشرين ونيف غارنا أمير القدس وأيقونتها الأخ فيصل الحسيني لكن القضايا التي تبناها ما زالت حيةً تثير نخوة الأمة، وغادر دنيانا الأخ سليمان درويش حجازي لكن أوراقه الثبوتية للأرض منذ العهد العثماني ما زالت شاهدة وتثبت فساد المحاكم الإسرائيلية.
لقد تابعت شخصياً ملف هذه القضية حتى عام 2002م حين أغلق الاحتلال مقر مركز أبحاث الأراضي في القدس بقرار عسكري يتم تجديده كل ستة أشهر، لكن القضية استمرت من خلال زملاء آخرين لهم كل التقدير والمحبة.
سألت المحامي حسني أبو حسين :- ما الذي يجعلك تواصل هذا الماراثون القضائي بكل هذا الحماس والمسؤولية بالرغم من أن العائد لا يغطي بنزين سيارتك في رحلاتك المكوكية من أم الفحم حتى القدس؟؟؟
أجاب بنخوة الرجال الأوفياء:- عروبة القدس وعهد الفيصل.